يتمتع الإنسان بديناميكية قوية وطاقة مميزة، الأمر الذي يُحتِّم عليه ممارسة عملية الاتصال والاختلاط اليومي مع البيئة وما تحويه من أمور وأحداث وأشخاص. فكثيرًا ما نتعرف على أفراد يتركون في داخلنا الانطباع المميز والذي يصعب نسيانه، إذ قد يُبهرنا شكلهم وأناقتهم وعطرهم وما إلى ذلك من الأمور التي تُغلِّف الشكل الخارجي للإنسان فيظهر في أبهى صورة دعائية قد تعكس أو لا تعكس ما في أعماقه وما في شخصيته وصفاته وطباعه من خفايا وحقيقة. تجدنا دائمًا نختار أن يُسحرنا بريق الغلاف ولمعانه، فننساب ونذوب في ثنايا سحره وعطره ويأسرنا بمفاتنه ويُبهرنا بسلاسته وانسيابيته... وبعد فترة نُصدم ويُخاب أملنا إذ نكتشف بأننا أخطأنا الحُكم وتسرعنا بأخذ القرارات وبناء العلاقات التي كشفت عن زيف ما في عمقها وقباحة تعيسة تحت قناع من الجمال والتقوى والجاذبية، فيلي خيبة الأمل هذه الشعور القويّ بالألم والخسارة والانزعاج!!
يهتم البعض منا بالمظهر الخارجي للأمور ولكنه يُهمل نقاوة القلب والمضمون، كالفريسيين الذين وبّخهم الرب السيد المسيح له المجد قائلا: "تُشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت23: 27).
وقال لبعضهم: "هكذا انتم أيضا من خارج تظهرون للناس أبرارًا ولكنكم من داخل مشحونون رياءً وإثمًا" (مت23: 28).
والمُضحك في الأمر أن الإنسان معتادٌ على النسيان، فيتكرر هذا الأمر كثيرًا وتزداد الخيبات والسقطات والتجريحات، وما نلبث نُكرر أسلوبنا في الحُكم الخاطئ على الغير... فكم من مرة احتقرنا أحدهم بسبب بساطة مظهره، وحسبنا آخرًا أخرق لطول صمته، وتناسينا أمر أحدهم لقلة ذِكره... ثم نكتشف مع الوقت أنه أرفع الناس وأذكاها وأكرمها وأحلاها؟!! "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً" (إنجيل يوحنا 7: 24).
نقع دائمًا بالفخ ذاته، ولسخرية الأقدار نحن من ننصب شركه بأنفسنا... فنفقد الثمين والغالي لعدم تقديرنا لقيمته ولاختيارنا أن نلعب دور القاضي والحاكم، ولكأننا نخلو من العيب والخطأ...!! ونُدرك متأخرين قيمة ما فقدناه فنتحسر ونتأوه ونتمنى لو ما حدث ما كان!!! فليس من السهل أن نصحح خطأنا، فما يُكسر لا يعود سليمًا أبدًا... سيحمل في طياته دائمًا الندوب والعلامات لتذكرنا دائمًا بما كان... أفلم ينخدع آدم وحواء من إغواء الحية وينبهرا ببريق سحرها وجمال عرضها وإثارته؟! واليوم البشريّة كلها تتمخض إثر زيفٍ وخداع وقباحة. "تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً، وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ" (أمثال 16: 25؛ 14: 12)!
اختار صموئيل النبي، اليآب اخي داود ليكون ملكا ولكن الرب رفضه قائلاً: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأني قد رفضته. لأنه ليس كما ينظر الإنسان. لأن الانسان ينظر الى العينين، واما الرب فانه ينظر الى القلب" (1 صم16: 7).
فليكن لنا منظور الرب للأمور من حولنا، فلا نحكم ولا نتسلط ولا ننخدع، بل تكون لدينا الوداعة والحكمة والفهم لنرى القلب والحقيقة والمضمون فيباركنا الرب ويتعامل من خلالنا في حياتنا وحياة الكثيرين من حولنا لمجده وملكوته... آمين.